مكتبة التداول

هل يعاقب الغرب روسيا، أم يعاقب نفسه؟ (الجزء الثاني)

0

كما أشرنا بالأمس، تعكس عدة وسائل إعلامية صورة الوضع الراهن القائم في أوكرانيا بتحيز للجانب الأوكراني، فيما تدعم وسائل إعلامية أخرى روسيا وتبرر دوافعها للإقدام على مثل هذه الخطوة، مما صعب على المتلقي وخاصة المستثمرين فهم حقيقة ما يحدث ما يدفعهم نحو الملاذات الآمنة أكثر وأكثر نتيجة تزايد حالة عدم اليقين.

خاصة مع السؤال الذي يدور في أذهان الجميع فيما يتابعون الأخبار، حول متى سينتهي هذا الصراع وكيف ولصالح من؟ فإذا ما استمعوا وتابعوا الأخبار من الطرف الأوكراني والغرب يجدون أن خلاص أوكرانيا من الهجوم الروسي وطرد القوات العسكرية بات قريباً، وأن روسيا ستفشل في احتلال أوكرانيا، خاصة في ظل الدعم الغربي لأوكرانيا المقدم في هيئة إمدادات بالأسلحة، وعقوبات تتزايد كل لحظة على روسيا، فضلاً عن المقاومة الأوكرانية الباسلة التي فوجئت بها روسيا، مما يجعل الأزمة قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء.

وإذا ما تابعوا ما يصدر من الجانب الروسي وقنواتهم الإخبارية، يجدون أن الإدارة الروسية مرتاحة مع التقدم الذي تحرزه القوات العسكرية، وأن القوات تحقق أهدافها في وقت أسرع مما كان محضراً له، وأن القوات العسكرية الأوكرانية ضعيفة ولا تقوى على مجابهة القوات الروسية. مما يوحي بطول أمد الأزمة.

فوسائل الإعلام التي تنحاز لروسيا لا تتوقف عن بث تصريحات الإدارة الروسية، بأن على عكس ما يروّج له الغرب من أن هذه العملية الروسية هدفها احتلال أوكرانيا، وأن الهدف منها هو إضعاف أوكرانيا عسكرياً وتحييدها تماماً فقط، ووقف استخدامها كأداة في يد الولايات المتحدة لتهديد الأمن القوي في روسيا. وإنه مع انتهاء تحقيق الأهداف، ستعود القوات العسكرية الروسية إلى روسيا.

هذا التضارب والانحياز الذي نشهده في كثير من القنوات الإخبارية ووسائل الإعلام، والمتمثل بعرض وجهة نظر جانب واحد دون الآخر يفتح باب التساؤلات عند المتلقين والمتابعين لكلا الجانبين من وسائل الإعلام. على سبيل المثال، إن كانت أوكرانيا تكبد روسيا كل هذه الخسائر في المعدات والأرواح على الأراضي الأوكرانية رغم إنه ووفقاً لما صدر بالأمس من الإدارة الأمريكية، تستخدم روسيا ٨٠٪ من قوتها العسكرية في أوكرانيا، وأن روسيا تفاجأت بقوة أوكرانيا العسكرية وصمودها. إذن، لماذا فتح الرئيس الأوكراني الباب للمرتزقة في أوروبا للانضمام دفاعاً عن أوكرانيا، ومن قبله فتح باب التطوع للمدنيين الأوكرانيين للحاق بالجيش؟ لماذا قبل الجلوس على طاولة المفاوضات مع روسيا في الحدود البيلاروسية؟ لماذا وقع طلب الانضمام للاتحاد الأوروبي وطالب الاتحاد بقبوله فوراً واستثناء أوكرانيا من كل الإجراءات الذي يتوجب إتمامها لتكون أوكرانيا جزءاً من الاتحاد الأوروبي؟ ولماذا لا يتوقف عن الاستنجاد بالولايات المتحدة والغرب ومطالبتهم بشديد العقوبات أكثر؟

ومن جهة أخرى وإن كانت الأخبار الواردة من روسيا أنها لا تستخدم سوى ١٠٪ فقط من قوتها العسكرية في أوكرانيا، وأنها تحقق أهدافها في وقت أسرع مما كان مخططاً له، فلماذا قبلت هي أيضاً بدورها الجلوس على طاولة المفاوضات؟ ولماذا أمر الرئيس الروسي “بوتين” بوضع الأسلحة النووية قيد الاستعداد؟ هل تفعل هذا كنوع من التهديد للجانب الغربي لعدم زيادة العقوبات أكثر، أم بسبب تصريح رئيسية البنك المركزي الروسي “إيلفيرا نابيولينا” بأن العقوبات قد قيدت من قدرة البنك المركزي على إيقاف نزيف الروبل الروسي، رغم رفعه لسعر الفائدة ليصل إلى ٢٠٪، وأن روسيا بدأت فعلاً تعاني اقتصادياً بشكل يصعب عليها تحمله؟

تراجع قيمة الروبل الروسي منذ بدء الحملة العسكرية

للأسف فإن الإعلام في الوضع الراهن لا يخدم المستثمرين، ويزيد من القلق والحذر، ويجعل الشعوب منقسمة فيما بينها ما بين مؤيد ومعارض، وفي حيرة حول من تصدق منهما. بل أن الأمر قارب أن يصل إلى مرحلة انقسام الشعوب إلى شقين. شق مؤيد للحلف في الشرق المتمثل في روسيا وحلفاءها، ضد شق يدعم الحلف الغربي المتمثل في الولايات المتحدة وأوروبا. وهو الأمر الذي سيزيد الوضع الراهن احتداماً، ولن يصب في مصلحة أي من الطرفين اقتصادياً.

وربما هذا ما دفع شركة “غوغل” الأمريكية إلى حجب قناتي “روسيا اليوم” و”سبوتنك” على موقع “يوتيوب” في جميع أنحاء أوروبا. كما أعلن موقع “تويتر”، يوم الإثنين وضع علامة خاصة على المحتوى الذي تنشره وسائل الإعلام والمواقع المرتبطة بالحكومة الروسية، وتقييد تسجيل حسابات جديدة في روسيا. هذا وقد قيدت “ميتا” التي يتبع لها “فيسبوك” الحسابات الرسمية لأربع وسائل إعلام روسية، للحد من مستوى القلق من قبل المتابعين، كما أعلنت وقف حملات التأثير ضد أوكرانيا. وفي المقابل، أعلنت الهيئة الروسية للرقابة على الاتصالات وضعها قيود جزئية للوصول لموقع فيسبوك في روسيا.

الذهب

وبالعودة إلى الأدوات التي لا تزال تمتلكها الإدارة الروسية للرد على العقوبات التي يتم فرضها من قبل الغرب، واستكمالاً لما أشرنا له بالأمس حول أداة الغاز والنفط والقمح، أعلن البنك المركزي الروسي بالأمس أنه سيبدأ في شراء الذهب من جديد، أي بعد أقل من عامين فقط من موجة الشراء طويلة الأمد التي كانت قد ساعدت في دعم أسعار السبائك في العقد الماضي.

أعلن البنك إنه سيبدأ بشراء الذهب من السوق المحلي، بعد العقوبات الغربية التي فرضت وشملت البنك نفسه وبنوك تجارية عدة في البلاد نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا. وهذا يعني أن رصيد البنك المركزي من الذهب الذي كان قد وصل إلى ٢٠٠٠ طن، أي ما يزيد قليلاً عن ٢٠٪ من احتياطيها في نهاية ديسمبر سيزداد. وكانت روسيا قد زادت من رصيدها من احتياطي الذهب علي مدى الست سنوات الماضية بشكل سريع، إذ أصبح البنك المركزي أكبر مشتري سيادي للمعدن وفقا لـ “بلومبرج”. وكانت هذه العمليات من الشراء قد توقفت في مارس ٢٠٢٠ نتيجة ارتفاع أسعار الذهب تزامناً مع انتشار وباء كورونا. وقد حافظ البنك على مخزونه ثابتاً لحد كبير، إذ دعمت المشتريات الروسية السوق في وقت كان الطلب فيه صامتاً من قبل المستثمرين.

وكانت أسعار الذهب قد تأرجحت بقوة الأسبوع الماضي مع بداية دخول القوات الروسية لأوكرانيا نتيجة تحول المستثمرين إليه بوصفه ملاذ آمن، إلا إنه عاد وتراجع بعد أن اكتفت الدول الغربية والولايات المتحدة بفرض عقوبات فقط على روسيا وعدم التدخل عسكرياً على عكس مخاوف المستثمرين التي دفعتهم لشراء الذهب. ليغلق عند ١٩٨٨.٣٤ بعد أن كان سجل ارتفاعاً عند ١٩٧٧ تقريباً.

ومع بداية هذا الأسبوع، سجل الذهب فجوة على ارتفاع مسجلاً ١٩٠٥ دولاراً ليسجل بعدها مزيداً من الارتفاع خلال الفترة الآسيوية، وعاد لينخفض في الجزء الأول من الفترة الأوروبية ليغلق جزءاً كبيراً من الفجوة السعرية الصاعدة التي ملأها بالكامل لاحقاً. إلا أن الأخبار المحيطة بأزمة أوكرانيا ساعدت الذهب على أن يغلق بالأمس عند مستويات الـ ١٩٠٠.

تشتري البنوك المركزية الذهب بهدف استخدامه كمستودع للقيمة وضمان تخليص الوعود لدفع المودعين وحاملي الأوراق المالية أو أقرانهم التجاريين أو لتأمين العملة. ومع اتخاذ البنك المركزي الروسي لقرار بدء شراء الذهب من جديد، بات واضحاً ما هو السبب الرئيسي وراء ذلك.

وكون العالم يشهد ظروفاً غير اعتيادية من التضخم والأوبئة وسلسلة نقص الامدادات، إلخ، والآن الأزمة الأوكرانية، وكون الذهب ملاذاً آمناً في مثل هذه الظروف فإننا سنشهد ارتفاع حاد لأسعار الذهب في الأسابيع المقبلة ما لم تنتهي هذه الأزمة بشكل سلمي، كون أن الأفضلية ستكون للذهب على حساب العملات الأخرى التي تندرج تحت نفس المسمى بما فيها الدولار الأمريكي. لن يكون الارتفاع سلساً، بل سيأتي بشكل تقلبات يليها استقرار لكن ما يمكن أن أضمنه، هو أن الأسعار لن تعود للانخفاض القوي مجدداً، بل ستقتصر على الاستقرار وعدم الارتفاع حال هدأت الأزمة. وهو أمر سيصب في مصلحة روسيا التي لديها خامس أكبر احتياطي من الذهب في العالم وتتجه لزيادته الآن في حال باعت جزءاً من الذهب بعد انتهاء الأزمة.

ارتفعات الذهب بعد بدء التحرك العسكري

النظام المالي الموازي

قد تنظر روسيا للصين باعتبارها حصان طروادة الذي قد يساعدها للالتفاف على العقوبات الغربية التي قررت من ضمنها عزل البنوك الروسية عن نظام الدفع العالمي “سويفت”، وتجد عندها أحد الأدوات الفعّالة لتخفيف أثر هذه العقوبات نوعاً ما.

احتجت الصين منذ أشهر على العقوبات الأمريكية، التي فرضت على شركات صينية مرتبطة بحملات القمع التي تنفذها بكين ضد “الإويغور” والأقليات المسلمة واعتبرتها سياسية وانتهاكاً لقواعد التجارة العالمية. ومع فرض عقوبات الآن على روسيا أيضاً، فهذا التصريح يتوافق مع المصلحة الروسية، إذ أن الضغط الأمريكي على الصين في السابق ومن ثم روسيا قرب فيما بينهما وقوى الروابط. ورغم إنه لم يصدر أي بيان واضح للموقف الصيني من العقوبات الجديدة على روسيا، إلا إنها أوضحت تفهمها للسلوك الروسي وأنها تحالو الدفاع عن نفسها وترد على استفزازات الجانب الأمريكي الغربي وحلف الناتو والتهديدات التي تشكل خطراً على الأمن القومي الروسي. وحتى مع عدم صدور بيان من قبل بنك “الشعب الصيني”، إلا انه كان قد قايض عملات بمليارات الدولارات مع البنك المركزي الروسي، فضلًا عن إدراج الصين البنوك الروسية في نظام المدفوعات الخاص بها.

ففي ٢٠١٩، قررت روسيا التخلص من النظام المصرفي الدولي سويفت، وأن تبني شبكة انترنت محلية خاصة بها “Runet” يسمح لها بفصل روسيا عن شبكة الانترنت العالمية المملوكة بنسبة كبيرة لأمريكا. وبالفعل ينتقل البنك المركزي الروسي من “سويفت” إلى “SPFS” الذي أنشأته روسيا عام ٢٠١٤ حين هددت الولايات المتحدة روسيا بطردها من نظام سويفت خلال العقوبات.

وفي عام ٢٠١٧، نفذت روسيا أول معاملة على النظام المالي الجديد، وبات لديه الآن أكثر من ٤٠٠ مؤسسة مالية في شبكته. لكن روسيا لم تكتفِ بذلك، ووجدت من الصين حليف وصديق مؤتمن ضد أمريكا، لتستخدم أيضاً نظام المدفوعات الصيني الدولي “CIPS”.

تشكل أصول اليوان الموجودة في احتياطات النقد الدولي والتي تمثل ما نسبته حوالي ١٣٪ من احتياطات النقد في روسيا بقيمة ٧٧ مليار دولار. وفي حال بيعت هذه الاحتياطات، ستحصل روسيا على السيولة التي تحتاجها في الوقت الحالي، مما يخفف ضغط العقوبات الغربية عليها.

لكن في المقابل، تعوّل الولايات المتحدة على بعض شركات التكنولوجيا في الصين التي تورد للصين مثل “SMIC” الحد من تجارة التكنولوجيا الحساسة الأمريكية الصنع خصوصاً فيما يتعلق بقطاع الدفاع الروسي، مع روسيا امتثالاً للعقوبات التي فرضت من الغرب عليها، تفادياً لخطر منع حصول واستفادة شركات التكنولوجيا الصينية من التكنولوجيا الأمريكية. وذلك كون روسيا تعتمد على الصين بثلث وارداتها من أشباه الموصلات، وأكثر نصف وارداتها من أجهزة الكومبيوتر والهواتف الذكية.

فهل تنجح كل من الصين وروسيا في الالتفاف على العقوبات وإنشاء نظام مالي ينافس الدولار الأمريكي، أم أن عدم نجاحهم في ذلك قد يصب في مصلحة الغرب وأمريكا؟

هل ترى روسيا في العملات الرقمية طوق نجاة يمكن الاستعانة به؟

العملات الرقمية المشفرة هي أرقام ورموز يمكن لك أن تصل إليها عبر شاشة الكمبيوتر أو الهاتف المحمول، ولكل عملة رمز أو إشارة خاصة بها، ولها تأثير على الاقتصاد العالمي بعد أن أصبحت رائجة في شتى أنحاء العالم.

ورغم إنها متاحة بشكل رقمي فقط، ولا وجود مادي لها، إلا أن لها نفس خصائص العملات الورقية، حيث يتم عليها معاملات فورية، ونقل ملكية بلا حدود، كما تستخدم بشراء السلع والخدمات المختلفة. فعلى سبيل المثال، يمكنك دفع قيمة سيارة تسلا بالعملات الرقمية كما أعلن “إيلون ماسك” مؤخراً، والذي يصل حجم استثماراته هو شخصياً في هذه العملات ١.٥ مليار دولار تقريباً، بل أن هناك عملة رقمية تحمل اسمه.

ارتفاع العملات الرقمية بعد بدء التحرك العسكري

وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن من مساوئ العملات الرقمية المشفرة إنها لا تنتمي إلى نظام مركزي، وخارج سيطرة البنوك المركزية وشركات الأموال الكبيرة. إلا أن روسيا قد ترى من هذه المساوئ فرصة سانحة لها لتفادي القيود التي فرضت على بنوكها.

ورغم أن الشركات صاحبة منصات تبادل العملات الرقمية قد تحظر التبادلات بعملة “الروبل” الروسية، فإنه يصعب أن تحظر العملات الأخرى التي قد نوعت منها روسيا في احتياطيها النقدي، وبذلك تساعدها العملات المشفرة على تخفيف آثار العقوبات الاقتصادية.

ولقد حذرت وزارة الخزانة الأمريكية بالفعل في أكتوبر الماضي من أن العملات المشفرة تشكل تهديداً خطيراً ومتزايد لبرنامج العقوبات، واعتبرت أن السلطات الأمريكية بحاجة إلى تثقيف نفسها أكثر فيما يتعلق بالتكنولوجيا.

ولكن “الهجمات السيبرانية” تعد من المخاطر الرئيسية التي تهدد العملات المشفرة، والتي قد تستخدمها أمريكا في مواجهة روسيا حال لجأت للعملات المشفرة.

ولكن هل تكون الهجمات السيبرانية سلاحاً ذو حدين؟ هذا ما سنعرفه في الغد مع الجزء الثالث والأخير من المقال، فضلاً عن مصير البورصات العالمية في ظل الأزمة الحالية.

معدل تحرك اسعار البيتكوين مقابل مؤشر MSCI
Leave A Reply

Your email address will not be published.